المادة    
ولذلك يقول الشيخ رحمه الله: (إنما صدر مثل هذا الكلام من بعض العباد في حالة استغراقه وغيبة عقله. ولذلك فإن أكمل الناس عبادة هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ثم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الصالحين، وما كان يصدر منهم مثل هذه العبادات ولا يعتقدون مثل هذه الاعتقادات، فإن صدر شيء من هذا ممن بعدهم ممن له خير وفضل وينسب إلى العلم والعبادة والزهد فإنه يعتذر له بأنه قال هذا في حال استغراقٍ وغيبة عقل، ولو كان كامل البصيرة وكامل الشعور لما قال هذا الكلام.
ولذلك نجد أن الصحابة كمل لديهم جانبان: كمل لديهم التدبر في القرآن وفي ملكوت السموات والأرض، فترد عليهم المعاني والحقائق التي لا ترد على قلوب غيرهم، وكمل لديهم الصبر والتحمل لهذه الواردات.
أما الذين جاءوا من بعدهم فإما أن يكون عندهم ضعف في هذه الواردات والحقائق اليقينيات؛ فلذلك يتبادر منهم أن يبكوا أو يخشعوا؛ لأنه ما دخل في قلوبهم ما يدعوهم إلى ذلك، وإما أن يكون العكس، فمن كان لديه واردات ويقينيات وفكر وذكر وتأمل أقوى من صبره وتحمله يضعف عنها، فإذا قوي لديه الوارد واشتد عليه ولم يكن عنده ما يتحمله به فإنه يسقط؛ ولذلك نجد أن الذين كانوا يسقطون ويصلون إلى درجة الإغماء من التابعين ثم من بعدهم إذا سمعوا ذكر الجنة أو النار أكثر ممن كان حاله هكذا من الصحابة، وليس هذا لأن أولئك أكثر خشوعاً، لكن الصحابة مع كثرة هذا اليقين والخشوع كانوا أكثر صبراً وأكثر تحملاً).
فالصحابة ومن اهتدى بهديهم جمع الله لهم الكمالين: كمال اليقين مع كمال الصبر والتحمل لما يرد، وأما غيرهم فإنه لا بد من أن ينقص منهما أو من أحدهما كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله.
فهؤلاء غاية ما في الأمر أنه يعتذر لهم في أقوالهم هذه، ونرجو الله أن لا يؤاخذهم بمثل هذا الكلام.
قال رحمه الله تعالى: (ونحن نضرب لذلك مثلاً يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى، وهو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة استدعاهم الرب جل وعلا إلى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله)، فكل النعيم ينسونه ويحتقرونه في هذه الساعة (كما جاء في أحاديث يوم المزيد)، وقد تقدم -والحمد لله- شرح موضوع الرؤية والأدلة عليه والرد على من خالف أهل السنة والجماعة في رؤية الله تعالى، وبيان فضل الرؤية، وتفاوت أهل الرؤية في الرؤية، فقد ورد أن بعض الناس يرى الله مرتين، وبعضهم لا يراه إلا مرة كل أسبوع، وورد في بعض الآثار أن منازل الناس في الرؤية تكون بمنزلتهم من الصلاة والمبادرة يوم الجمعة، فمن بكر وكان في الصف الأول وأقرب إلى الإمام كان أعظم رؤية لله تعالى من غيره، وهكذا تكون الدرجات، فهذه منزلتهم في الجنة عند الله تعالى.
يقول: (فلو أنهم ذكروا في تلك الحالة بشيء من نعيم الجنة) من الحور، أو مما أعده الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لو أنهم ذكروا في حالة الأنس بالله والنظر إلى وجهه جل جلاله بهذا النعيم (لأعرضوا عنه ولأخبروا بأنهم لا يريدونه في تلك الحال)؛ لأنهم الآن متنعمون بما هو أجل وأعظم من ذلك كله.
يقول: (وكذلك لو خوفوا عذاباً ونحوه لم يلتفتوا إليه، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنما يحذرون حينئذٍ من الحجاب)، عما هم فيه، والبعد عنه، فإذا رجعوا إلى منازلهم رجعوا إلى ما كانوا عليه، فتهدأ قلوبهم وتطمئن، فيرجعون إلى ما كانوا عليه (من التنعم بأنواع النعيم المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانياً) وهذا من فضل الله تعالى، فهذا النعيم ينسي بنعيم لذة النظر، وهذه من دقائق الاستنباط لدى الحافظ رحمه الله.
يقول: (فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا) إذا لحظوا هذا الملحظ، فكأنهم ينسون الجنة وينسون النار، لا أنهم لا يعملون من أجلها، بل يعلمون أن أفضل ما في الجنة هو هذا، لكنهم يستشعرون مثل تلك الحالة من رؤيتهم الله.
يقول: (فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد).
لكن الفرق أن الرؤية في الآخرة رؤية مشاهدة وتنعم على الحقيقة، أما في الدنيا فإنما هي تذكر وتفكر وتدبر ويقين وخشوع.
يقول: (فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذٍ أيضاً غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به) كمثل رجل عابد ذكر الله وتفكر في آيات الله واستغرق في ذلك فكره كله؛ فنسي ما عداه فأغمي عليه أو سقط أو قال بعض العبارات، فإذا عاد إليه عقله ورشده بدأ كحال غيره من العباد، فيجدون أن إرادتهم باقية، وأن حبهم لنعيم الجنة باق، وأن خوفهم من النار ما يزال، وشدة بعدهم عنها ما تزال، فهذا المثل يوضح ذلك، وهو مثل عظيم لمن تدبره وتأمله.
يقول رحمه الله: (وأيضاً فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل على المؤثر، فالنار دليل على عظمة الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سطوته وانتقامه في أعدائه)، كما قال تعالى: (( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ))[البروج:12] (فالخوف منها في الحقيقة خوف من الله، وإجلال وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أن الله تعالى يخوف بها عباده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها)، فنحن عبيد لله تعالى، وإن من محبة الله تعالى أن نحب ما يحب، ومما يحبه تعالى أن يتعبد بالخوف من عذابه والخوف من ناره، وبهذا لا نخرج عن المحبة، حتى لا يقول قائل: إنك تعبد الله خوفاً من ناره، أو طمعاً في جنته، فإني حينئذٍ أقول له: إني أعبد الله تعالى بما أحب لي، وهو تعالى يحب أن أخاف عذابه وناره وأرجو جنته، وبهذا نعرف أن الرسل هم أكمل ممن جاء بعدهم في هذا الأمر.
ما دام أن أعلى درجات نعيم الجنة هو رؤية الله تبارك وتعالى، ولن يرى الله عز وجل أحدٌ إلا وهو من أهل الجنة، فإذاً من يعبد الله سبحانه وتعالى طمعاً في جنته ورغبةً فيها، ومن يسأل الله تعالى الجنة آناء الليل وأطراف النهار لم يخرج عن كونه عابداً لله تعالى بالمحبة، ولا يقال: إنه مجرد أجير، أو كالأجير كعبد السوء، كما تقدم في بعض الكلام، لا يقال ذلك؛ لأنه يريد الجنة، ومن جملة ذلك يريد أفضل ما فيها، وهو رؤية الله سبحانه وتعالى.
فيا من تزعمون أو تظنون أن الله تعالى إنما يعبد محبةً، وأن العبد غاية النعيم عنده أن يحب الله ويتلذذ بالله وبمناجاة الله، ولا يفكر في جنة ولا نار، نقول: أنتم أخطأتم؛ لأن من يسألون الله الجنة يسألونه وأولى ما يسألون أعظم ما فيها من النعيم وهو رؤيته سبحانه وتعالى.
والذين يستعيذون به من النار ويخافون من النار؛ هم يفعلون ذلك؛ لأنهم لو دخلوها عياذاً بالله حرموا من رؤية الله، وبالتالي حرموا أعظم نعيم الجنة.
الذين كانوا كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم: (( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ))[الأنبياء:90] الذين كانوا كما في الحديث الصحيح: ( كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ) من هذا الباب، فهم كانوا يرجون الله الجنة، ويخافون من النار، ويستعيذون بالله تعالى منها من هذا الباب، فاكتملت واجتمعت الأركان كلها، بلغوا غاية المحبة لله، وكذلك غاية الخوف من الله، وكذلك بلغوا غاية الرجاء والطمع فيما عند الله.
ولا يجوز لأحدٍ أن يعبد الله تبارك وتعالى بواحدٍ من هذه الثلاثة فقط، بل لابد أن يعبد سبحانه وتعالى بالحب والخوف والرجاء معاً، هذا هو المقصود وبه يتضح المطلوب إن شاء الله تعالى.
أما الحديث عن المحبة التي يدندن حولها بعض الطوائف ويرون أن الله تعالى يتعبد له لذاته لا للجنة ولا للنار؛ فإن من محبة الله تعالى محبة ما يحبه ومما يحبه سبحانه تعالى أن نحب الجنة ونرغب فيها وأن نخاف النار ونحذر منها.